د. عادل بن محمد السبيعي
الحمد لله الذي بعث في كل أمة نذيراً، وشرف هذه الأمة بمبعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فجعله لها سراجاً منيرًا،ومبشرًا نذيرًا، فملأ به الأرض خيرًا كثيرًا، والصلاة والسلام على نبينا محمد صاحب الدلائل الباهرة، والحجج القاهرة، والبراهين القاطعة الدامغة، بعثه الله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وعلى الصحابة والتابعين، ثم أما بعد:
فمن المعلوم بالاضطرار أن الله لم يترك الخلق هملاً، ولم يذرهم سدًا، بل بعث فيهم المرسلين مبشرين ومنذرين، كما قال سبحانه: (ولقد بعثنا في كل قرية نذيرًا)(ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً منهم) وقوله سبحانه وتعالى: (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل).
أيد الله كل نبي بالآيات الباهرات، وأيد كل نبي بالآيات الباهرات التي لا يستطيع ردها أحد من البشر إلا من كابر وعاند كفرعون ونحوه من طواغيت الأرض. ولقد كان لنبينا صلى الله عليه وسلم من هذه الآيات الشيء العظيم والكثير المستمر، لكونه خاتم النبيين وسيد المرسلين، يقول صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة" متفق عليه.
ولهذا تنوعت دلائل نبوته وتعددت وكان القرآن الكريم هو المعجزة العظيمة الباقية الدالة على صدق نبوته وشمول رسالته، صلى الله عليه وسلم، أما سائر الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه فإن دلائل نبوتهم انتهت، كعصا موسى، وناقة صالح، وإبراء الأكمه والأبرص لعيسى عليهم صلوات الله وسلامه، وذلك لأنهم بعثوا إلى قوم خاصين ولم يبعثوا إلى الناس كافة كما هو الحال في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، من أجل هذا بقيت معجزته العظمى دون سائر الأنبياء، كما أن بعض دلائل نبوته لا يزال باقياً كإخباره ببعض المغيبات التي يتوالى وقوعها زمناً بعد آخر.
وقوله سبحانه:
المقصود بدلائل النبوة :
والمقصود بدلائل النبوة العلامات التي يستدل بها على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والبراهين الظاهرة التي يستوي فيها الناس كلهم غالباً نحو انشقاق القمر ونبوع الماء بين أصابعه وتكثير الطعام ونحوها كما سيأتي بيانه.
القرآن مليء بدلائل النبوة :
وقد دل القرآن على شيء كثير من هذه الدلائل واحتواها في آية فمنها على سبيل المثال:
(وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين) ويقول سبحانه وتعالى
وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون). 1) إخباره عن الأمم السابقة وما حصل لهم وحل بهم مما يعلم ضرورة عدم شهود النبي صلى الله عليه وسلم أو إخبار أحد له لكونه لم يلتق عن أهل الكتاب ولم يكن بالقارئ صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى بعد ذكره لقصة موسى عليه السلام:
ويقول سبحانه وتعلى في قصة مريم: (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون).
ويقول جل وعلا بعد ذكر خبر يوسف عليه السلام: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون).
(آلم، غلبت الروم، في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضعسنين.....) ووقع كذلك وقوله جل ذكره: (لقد صدق الله رسوله الرؤيا لتدخلنالمسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون). ووقع كما أخبر. وشواهد ذلك كثيرة لا تحصى.
وهناك أمور أخرى احتواها القرآن دلت على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم كإبطاله دين اليهود والنصارى بالحجج الباهرة ورده دعاوى اليهود وأكاذيبهم بالبراهين الساطعة وإخباره عن ما أخفوه من كتبهم على الناس، وصدق الله حيث يقول: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين).
2) إخبار القرآن عما سيكون من الحوادث العظام ووقوعها كما أخبر مما يدل على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم إذ لا سبيل إلى معرفة ذلك إلا بالوحي الذي لا يكذب يقول تعالى: 3) إخبار القرآن عن اختلاف أهل الكتاب وتفرقهم وسبب الافتراق والاختلاف وحقيقته مما لا يستطيع أحد معرفته إلا من اطلع على كتبهم وعاش بينهم دهرًا وطويلاً ومن المعلوم أن هذا وهذا لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم منه شيء إلا ما أوحى الله تعالى له فعلم بذلك صدق نبوته.
وقد تنوعت دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم الحسية والخبرية بشكل لم يحصل لنبي من الأنبياء عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه ويمكن أن نقسم دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم إلى عد أقسام لتتضح.
أقسام دلائل نبوته:
القسم الأول: ما وقع قبل مولده صلى الله عليه وسلم.
القسم الثاني: ما وقع في حياته صلى الله وعليه وسلم
وهذا القسم يمكن تقسيمه إلى نوعين:
الأول: ما وقع قبل بعثته صلى الله عليه وسلم.
الثاني: ما وقع بعد بعثته صلى الله عليه وسلم.
القسم الثالث: ما وقع بعد موته صلى الله عليه وسلم.
كما أن هناك تقسيمات أخرى ليس هذا مكان بسطها وعلى كل حال فدلائل نبوته لا يجمعها كتاب جامع لكثرتها وقد صنف العلماء في جمعها مصنفات كثيرة.
والمقصود هنا ذكر شيء من هذه الدلائل حسب التقسيم المذكور على وجه الإجمال على أن عامة هذه الدلائل مما أخرجه الشيخان في وسأكتفي بالإجمال خشية التطويل
دلائل النبوة قبل مولده
القسم الأول ما وقع قبل مولده.
وقع قبل مولده دلائل كثيرة تدل على نبوته صلى الله عليه وسلم إما بطريق الالتزام أو التضمن، ومن ذلك ما جاء في أخبار كل من وهب بن منبه وخبر حسان بن ثابت وخبر أبي قيس البخاري وخبر حويصة بن مسعود وكثير مما يدل على بشارة أهل الكتاب بمولده وظهور نجمه ولعل من أهم ما يذكر مثالاً على هذا النوع قصة الفيل الذي غزا الكعبة فصرفه الله عن البيت في السنة التي ولد فيها النبي صلى الله عليه وسلم وهي أشهر من أن تذكر ولهذا امتن الله على أهل مكة بها وطلب منهم معرفتها وشكرها بالإيمان بنبيه وتوحيد ربهم يقول تعالى: (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ألم يجعل كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طيرًا أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول).
وكذا اهتزاز عرش كسرى وقيصر لولادته.
دلائل نبوته في حياته
القسم الثاني: ما كان منها في حياته وهي نوعان:
النوع الأول: ما كان قبل بعثته وقبل أن ينبأ.
فمن ذلك ما حصل عند ولادته من النور الذي رأته أمه وما حصل لحليمة السعدية من البركة لها ولقومها حين استرضع صلى الله عليه وسلم عندهم وقصة رفع الحجر الأسود وتكريم الله له بهذه المهمة وما حصل له من الإغماء عند إرادة التعري عندما أراد حمل حجارة الكعبة على عاتقه مع ما عرف عنه من جميل الخلال وطيب السجايا وكل ذلك ثابت ثبوتاً كما قال أهل لعلم يبلغ درجة الاستفاضة.
النوع الثاني: ما حصل بعد مبعثه وقبل وفاته.
وهذا النوع أكثر من أن يحصى أو يحيط به كتاب لكثرة الروايات الدالة على نبوته وعظم مكانته عليه الصلاة والسلام فمن ذلك تكثير الماء القليل تارةً ونبوعه بين أصابعه تارةً أخرى وتكثير الطعام القليل وإجابة دعاءه في الحال وحنين الجذع له حتى سمع له صوت وإخباره عن الأمم السابقة وما حصل لها مع أنبيائها ورفع الصخرة له عند هجرته وإخباره عما وقع في عصره في نفس الوقت كإخباره عن مقتل كسرى وموت النجاشي وما وقع لسراقة بن مالك من الاحتباس حين أراد ضره وما وقع من أخبار الذراع المسموم له بأن فيه سماً وحفظ الله له ممن أراد قتله وأعظم ذلك انشقاق القمر له حتى رؤي فرقين إلى غير ذلك مما هو ثابت في الصحيحين وغيرهما من وجوه لا تحتمل الشك.
القسم الثالث: ما وقع بعد موته.
فمن ذلك إخباره عن المغيبات التي ستقع بعده ووقعت كما أخبر كأخبار الفتن ومقتل بعض أصحابه وما سيجري لبعضهم من الشرور وما سيجعل الله في بعضهم من الخير ومنه إخباره عن هلاك كسرى وأنه لا كسرى بعده وهلاك قيصر وأنه لا قيصر بعده وإخباره عن خروج الكذابين الدجالين مدعي النبوة وإخباره عن ظهور أمته وكرامتها، وعن الطائفة المنصورة وبقائها على أمر الله وإخباره بموت فاطمة بعده وأنها أسرع أهله لحوقاً به إلى غير ذلك وقد صح كل هذا ولله الحمد من طرق كثيرة في الصحيحين وغيرهما.
دلائل نبوته متواتر لا يردها إلى من أعمى الله بصيرتهوالمقصود هنا أن دلائل نبوته كثيرة متنوعة تبلغ درجة التواتر ولا يستطيع أحد ردها إلا من أعمى الله بصيرته واستحكم عليه هواه عياذًا بالله، فتباً لقوم به لا يؤمنون ولشريعته لا يتبعون (فهدى الله الذين أمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه) وله الحمد ظاهرًا وباطناً.
الهم اجعلنا لنبيك متبعين وبه مؤمنين وعلى طريقه وطريق أصحابه مقتفين وجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن إنك سميع.